خطاب سعيد- حرب مستمرة، معارضة مهددة، ومستقبل غامض لتونس.

في خطابه الافتتاحي لولاية رئاسية ثانية وأخيرة، صرح قيس سعيد، الرئيس الذي أعيد انتخابه، بأن الشعب التونسي قد عبر عن إرادته في السادس من أكتوبر، وأنه سيواصل المسيرة التي بدأها في 25 يوليو 2021، معتمدًا نفس الاستراتيجيات والسياسات في إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ربما بحزم أشد، مؤكدًا أن "العبور قد تحقق بفضل الله، بعد معركة استنزاف طويلة، واجهت فيها الدولة أخطار التمزق وتآمر الخونة والعملاء مع قوى صهيونية وماسونية متشبثة بأذيال الدوائر الاستعمارية".
لقد تجسد في خطاب قيس سعيد إصراره الراسخ على منهجه السابق وخياراته، متجاهلًا مقاطعة ما يقارب 71.2% من الناخبين، وكأنه أصمٌ لا يسمع، وأعمى لا يرى، ومنعزلٌ لا يتفاعل مع المعاناة المتفاقمة للشعب التونسي، والتي تفاقمت بفعل تدهور القدرة الشرائية، وتردي الخدمات العامة، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات السياسية والمدنية، فضلًا عن التقارير المتلاحقة الصادرة عن منظمات المجتمع الدولي، وبعض الحكومات، والبرلمانات، والمؤسسات المرموقة، بما في ذلك البرلمان الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
حروب متواصلة وجبهات جديدة
أكد قيس سعيد بعزم لا يلين على مواصلة الحروب التي بدأها، مع فتح ساحات قتال جديدة تفرضها المرحلة الراهنة، واستخدم في خطابه قاموسًا لغويًا عسكريًا حافلاً بالحدة والتوتر، مستحضرًا مفردات مثل: "تآمر"، "جبهات"، "تصدٍ"، "عبور"، "حرب"، "خونة"، "فاسدين"، "لصوص"، و"فحيح الأفاعي".
لم تكن الحرب في خطاب قيس سعيد مجرد حدث عابر، بل هي الأساس والمسوغ الجوهري لبناء روايته عن "انقلابه" وإضفاء الشرعية على حكمه، باعتباره النقيض المطلق لما سبقه، وخاصة لعقد الحرية والانتقال الديمقراطي الذي بدأ منذ عام 2011.
يُصر قيس سعيد بإلحاح على "تجريم المعارضة" ووصمها بأشنع النعوت، ليتخذ من الحرب ضدها، مرة أخرى، ذريعة واهية يعلق عليها إخفاقاته المتوقعة في إدارة المرحلة الجديدة، وخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
حرب على منظومة الثورة والانتقال الديمقراطي
استحضر قيس سعيد في خطابه الماضي، متذكرًا بعض الأحداث التي تعود إلى عام 2012 وما تلاه، موجهًا اتهامات مبطنة لكل الأطراف الفاعلة آنذاك من أحزاب، وعلى رأسها حركة النهضة، ومنظمات، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، ولم يستثنِ من ذلك البرلمان المنتخب سنة 2019.
يرى قيس سعيد في هذه المنظومة، بكل ما تحمله من اختلافات وتناقضات، خطرًا جسيمًا؛ لأنها "مارست الإرهاب وسعت إلى تفكيك الدولة، وهددت تواصلها ووحدتها، ونكّلت بالتونسيين".
وتوقف قيس سعيد مليًا عند ما وصفه بـ "آخر توافق إجرامي كان قبل الانتخابات الأخيرة"، في إشارة ضمنية إلى المحكمة الإدارية التي قضت بعودة المرشحين الثلاثة إلى السباق الانتخابي بعد أن استبعدتهم هيئة الانتخابات أولًا، ثم رفضت إعادتهم ثانيًا.
وأشار إلى أن هذا التوافق "حاول إدخال البلاد في صراع بين شرعيات، وإدخال تونس في أتون اقتتال داخلي وتقسيمها إلى مجموعة مقاطعات"، متهمًا المتورطين في هذا الوفاق الإجرامي بالتآمر مع الصهيونية وأعضاء المحافل الماسونية، مؤكدًا أن الشعب قد حسم أمره بتخليص البلاد من هؤلاء الفلول والزواحف السامة والأفاعي، وأن مواصلة الحرب ضدهم حتى تطهير الدولة والمجتمع منهم هي أولى أولوياته في المرحلة القادمة.
لقد استكمل قيس سعيد خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه المطلق تصفية شاملة لكل ما يمت بصلة إلى منظومة الثورة والانتقال الديمقراطي من دستور ومؤسسات وهيئات وأجسام وسيطة وقوانين وشخصيات.
بل وتجاوز ذلك إلى تقويض أركان النظام الجمهوري، وتغيير معالم الدولة، والسعي الحثيث لتغيير المجتمع وتصنيفه بين "وطنيين مخلصين"، وهم أنصاره، و"أعداء"، وهم معارضوه.
حرب تحرير البلاد
قدم قيس سعيد نفسه في صورة البطل القومي الذي يقود معركة ضروس لتحرير البلاد من براثن الاستبداد والخونة واللصوص والطغاة والعملاء المتشبثين بأذيال الدوائر الاستعمارية، مؤكدًا أنه لن يهدأ له بال حتى يطهر البلاد بالكامل من هؤلاء الأرجاس، وأنه سيواصل في سياق هذه الحرب التصدي للإرهاب والفساد بكل أشكاله، معلنًا أنه "لا تراجع عن المحاسبة، وأنه لا مكان لمن لا يعمل على تحقيق آمال الشعب ولمن يعطل السير الطبيعي للمرافق العمومية".
ولم تتوقف معركة التحرير عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل تصفية آثار الاحتلال والقطع التام مع المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية، ورفض الانصياع لإملاءاتها "من أجل بناء اقتصاد وطني راسخ يقوم على خلق الثروة في ظل خيارات وطنية خالصة نابعة من إرادة الشعب".
وفي معرض حديثه المطول عن الحروب والأعداء، ظل قيس سعيد أسير وهمين لا يفارقه:
- الوهم الأول: هو وهم الشعبية الجارفة وغير المسبوقة في التاريخ السياسي التونسي، وهي الشعبية التي استند إليها في خطابه الذي قدم فيه نفسه زعيمًا وطنيًا وباني الجمهورية الثالثة وقائدًا لحروب لم يجرؤ أحد على خوضها قبله، بينما كشفت نتائج الانتخابات أنه لا يمثل سوى أغلبية ضئيلة ضمن أقلية من الشعب التونسي لم تتجاوز 28.8%، في حين اختارت الأغلبية الساحقة مقاطعة الانتخابات؛ لأنها لم تجد ما يستهويها في خطاب قيس سعيد وممارساته.
- أما الوهم الثاني: فهو حديث قيس سعيد بنبرة الواثق المتبجح عن قدرته الفائقة على تذليل العقبات والتغلب على التحديات وكسب الرهانات بسرعة مذهلة، بينما أظهرت السنوات الثلاث من حكمه المطلق قصورًا واضحًا في كفاءته في إدارة الشأن العام، وفشلًا ذريعًا في معالجة أهم القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتأتي النتائج صفرية دون تحقيق أي إنجاز يذكر، وتتدهور جميع المؤشرات بشكل ملحوظ، وتتعمق الأزمات وتتفاقم الواحدة تلو الأخرى.
معركة البناء والتشييد
في معرض حديثه المقتضب عن المستقبل، بدا قيس سعيد متلعثمًا يلقي بكلمات عامة مبهمة، لا هي استمرار لسياسات سابقة حققت إنجازات ملموسة، ولا هي برنامج جديد للمرحلة القادمة، علمًا بأن قيس سعيد لم يقدم أي تصور اقتصادي أو اجتماعي في حملته الانتخابية المتواضعة، باستثناء بعض الشعارات والعبارات الفضفاضة.
وفي هذا السياق، تحدث قيس سعيد عن معركته الجديدة، "معركة البناء والتشييد"، بنبرة شعبوية مطلقة، مقدمًا وعودًا وردية في مجالات عجز عن تحقيق أي تقدم فيها، وهي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية، ولا يبدو أنه سيمتلك في السنوات القادمة الأدوات والآليات اللازمة لتحقيقها، خاصة إذا استمر في تبني نفس السياسات والمقاربات، واستمرت أرصدة الدولة في التناقص وتراجعت مواردها.
تحدث قيس سعيد باستفاضة عن استعادة الدولة لدورها الاجتماعي الكامل غير المنقوص في المرافق العامة في التعليم والنقل والصحة والسكن اللائق والأجر العادل المجزي والتغطية الاجتماعية، ومن خلال "فتح آفاق جديدة أمام العاطلين عن العمل وخاصة الشباب".
كما تحدث عن بناء اقتصاد وطني متين يرتكز على الثروة وينبع من إرادة الشعب ويعتمد على الإمكانات والموارد الذاتية للدولة كبديل عن اقتصاد الريع وبعيدًا عن إملاءات المؤسسات المالية الدولية التي ترسخ التبعية، دون أن يقدم رؤية واضحة المعالم لتحقيق ذلك في بيئة وطنية بالغة الصعوبة ومهددة بالانهيار.
ومما زاد الطين بلة التدهور المستمر في جميع المؤشرات الاقتصادية، وفقًا لما ورد في التقريرين الأخيرين للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي حول تونس حتى عام 2022، وتدهور صورة تونس في الخارج، وخاصة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، باعتبارها دولة يحكمها نظام استبدادي ينتهك القوانين ويعتدي على الحقوق والحريات، وذلك في ظل بيئة دولية وإقليمية مضطربة للغاية ومفتوحة على تحولات وحروب كبرى.
في هذا الجانب الحيوي والمهم، لم يقدم قيس سعيد كعادته شيئًا ذا قيمة سوى أمرين اثنين:
- الأول: لا قيمة له في ميزان محركات التنمية، وهي الشركات الأهلية التي أصبح مجرد ذكرها يثير لدى شريحة واسعة من التونسيين مشاعر الاشمئزاز والسخرية جراء فشلها الذريع وغياب جدواها الاقتصادية ومردودها الاجتماعي وضيق آفاقها.
- والثاني: المبادرة الحرة، والتي يبدو أنها لا تمثل أولوية تُذكر عند قيس سعيد، على الرغم من قيمتها الثابتة كمحرك للتنمية الاقتصادية، حيث صرح بأنه ليس ضدها، وأنه ينبغي ممارستها في إطار قانوني سليم "هو من يحدده بنفسه"، والأرجح أن ذلك سيكون في اتجاه التضييق عليها في سياق رؤيته السلبية للقطاع الخاص بشكل عام.
ثورتان من أجل التغطية عن ثورات
لتحقيق أجندته "الحربية" في الفضاء السياسي والمدني، أعلن قيس سعيد أنه يعتزم القيام بثورتين:
- ثورة ثقافية دون تحديد طبيعتها وأسسها ومرجعيتها وأدوات تحليلها، مضيفًا بذلك إلى رصيده شعارًا شعبويًا جديدًا للاستهلاك المحلي.
- والثورة الثانية تشريعية لتمكين الشعب من أدوات تحقيق مطالبه، وهو شعار قديم كان محورًا رئيسيًا في خطاب قيس سعيد قبل انتخابه في عام 2019، ولكنه ظل هو الآخر مجرد شعار أجوف لا أثر له على أرض الواقع، لأن أغلب مراسيم قيس سعيد – إن لم تكن كلها – لا علاقة لها بما يريده الشعب حقًا.
إن هاتين الثورتين في خطاب قيس سعيد ليستا سوى شعارات دعائية شعبوية للتغطية على عجز منظومته عن تحقيق رهانات الثورات الحقيقية المطلوبة، مثل الثورات الاقتصادية والرقمية والطاقية والمعمارية والبيئية.
صمت مطبق وفرصة لا تقبل الهدر
على الرغم من مرور أيام على خطاب قيس سعيد، يسود الساحات السياسية والاجتماعية والمدنية صمت مطبق، وكأن الخطاب لم يحدث أصلاً. ربما يعزى هذا الصمت إلى أن الخطاب لم يأتِ بجديد يستحق التفاعل معه أو التعليق عليه، وأنه لم يكن عرضًا سياسيًا بقدر ما هو "مونولوج" انفرادي تحدث فيه قيس سعيد مع نفسه.
ومع ذلك، ستجد المعارضة نفسها في المرحلة القادمة أمام وضع صعب فرضته عليها السلطة من خلال أمرين:
- الأول: الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها السلطة طوال المسار الانتخابي، مما جعل الانتخابات، في نظر المعارضة، غير تعددية وتفتقر إلى معايير النزاهة والشفافية ويتم التلاعب بنتائجها مسبقًا، وفرصة ضائعة لتحكيم صوت الشعب وتحقيق التداول السلمي للسلطة.
- الثاني: مضمون خطاب القسم الذي عزز الشعبوية وعمق الفجوة والعداء بين السلطة والمعارضة، وأغلق بشكل نهائي كل باب للتفاعل بينهما، وهو ما يعني عمليًا أن السلطة ستواصل خلال السنوات الخمس القادمة حربها الشرسة على المعارضة، وتصفيتها، وقتل الحياة السياسية، وإفراغ الفضاء العام من جميع الأجسام الوسيطة، مع ما ينطوي عليه هذا الخيار من مخاطر جمة تهدد استقرار البلاد وأمنها القومي، خاصة في ظل استمرار فشل السلطة في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية العالقة، وعجزها عن تحقيق أي تقدم ملموس يغير واقع التونسيين نحو الأفضل، أو على الأقل يوقف انحدارهم المتواصل نحو الفقر المدقع.
إزاء هذا الوضع المفروض، ما الذي يمكن للمعارضة أن تفعل حتى تضطلع بدورها المنشود في إنقاذ تونس من براثن الشعبوية ومخاطرها الجسيمة، والدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المشروعة للشعب التونسي؟ إن أمام المعارضة فرصة عظيمة وخطر محدق في آن واحد:
الفرصة السانحة هي أن تأخذ المعارضة قسطًا من الراحة والتفكير العميق لتحقيق هدفين رئيسين:
- الأول: إجراء قراءة متأنية للمشهد السياسي الذي ظهر خلال المسار الانتخابي برمته، وصولًا إلى نتائج الانتخابات وإحجام أكثر من 70% من الناخبين عن المشاركة فيها، بمن فيهم 94% من الشباب، وذلك بهدف فهم الرسائل واستخلاص العبر وتحديد مسارات العمل المستقبلي التي تعتمد على ذلك.
- الثاني: وهو الواجب الملح، البحث الجاد عن سبل بناء ثقافة سياسية جديدة قوامها الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي، بدلًا من ثقافة الإقصاء والتناحر والعلاقات العدائية التي سادت عقد الانتقال الديمقراطي وأفسدته.
إن تونس بأمس الحاجة إلى مشروع سياسي وطني شامل يرتكز على ثلاث ركائز أساسية جامعة، هي: الحرية والديمقراطية والإنقاذ، وذلك من أجل وقف النزيف المستمر. ولا يتطلب بناء هذا المشروع أن تتخلى المعارضة عن خلافاتها الجوهرية وأن تتوحد جميع أطرافها في كيان سياسي موحد.
كما أنه لا يتطلب، في البداية، الاتفاق على تقييم موحد لما قبل 25 يوليو 2021، ولكنه يستلزم قطعًا إرادة جماعية للتغيير والتحرك المتناغم في مسارات متعددة ومتكاملة تتجاوز الجانب السياسي لتشمل الجوانب المدنية والاجتماعية والمجتمعية والحقوقية والقانونية والثقافية.
إن تفويت المعارضة لهذه الفرصة الذهبية سيجعلها في نهاية المطاف وجهًا لوجه أمام الخطر الحتمي، وهو بقاؤها متشرذمة وعاجزة وهامشية على هامش العملية السياسية، مما يفسح المجال واسعًا أمام قيس سعيد ليفعل بالشعب التونسي ما يحلو له دون رادع، وعندها ستكون الكلفة باهظة جدًا والأثمان غالية من حرية التونسيين وحقوقهم ومستوى معيشتهم.
ويتضح جليًا من خلال خطاب القسم أن المشهد العام في تونس سيكون ساحة حرب مستمرة بين سلطة اختارت المضي قدمًا في نهجها الشعبوي والاستبدادي ضد الجميع، والتضحية في سبيل ذلك بحقوق التونسيين ومطالبهم المشروعة، ولا يزيد مشروعها عن معارك مفتعلة وأوهام شعبوية براقة تتخذ من التحرير والبناء والتشييد عناوينًا زائفة، وبين معارضة لم تستعد عافيتها بعد، ترفض الاستسلام وتتلمس أفقًا جديدًا يخرجها من ضيق التشتت والتهميش إلى قلب العملية السياسية، وهو أفق لا خلاف حول ماهيته، ولكن تحقيقه الفعلي يبقى معلقًا على مدى استيعابها للفرصة المتاحة أمامها.
ولا شك أن تونس تمر بلحظة فارقة في تاريخها، وأنها تقف على مفترق طرق حاسم بين مزيد من الانحدار في نفق الشعبوية المظلم ومخاطرها "القاتلة"، وبين إنقاذها وإعادتها إلى المسار الديمقراطي المنشود.
والشرط الأساسي لتحقيق ذلك هو أن تتحرك المعارضة من الآن فصاعدًا في الاتجاه الصحيح، وأن تتبوأ المكانة اللائقة التي تجعلها قوة للدفاع عن الدولة والمجتمع والمواطن، وقوة دافعة نحو تحقيق التغيير المنشود وبناء المستقبل المزدهر.